منذ انطلاقة العدد الأول من مجلة نصف الدنيا في 18 من فبراير 1990, وهي علي مقربة من عملاق الرواية العربية, أديب نوبل الغائب الحاضر نجيب محفوظ (1911-2006), الذي نحتفل بذكري ميلاده الأولي بعد المائة, في الحادي عشر من ديسمبر الجاري.
اختص العم محفوظ صفحات نصف الدنيا بنشر قصصه الجديدة, فشهدت المجلة أصداء السيرة الذاتية مسلسلة للمرة الأولي, قبل أن تصدر في كتاب, ثم ولدت علي صفحات المجلة تجربة أحلام فترة النقاهة, آخر ما اختطه قبيل رحيله. ويشكل هذان العملان انعطافة حقيقية في المسيرة المحفوظية الحافلة بإجماع الدارسين, حيث تتلاقي فيهما خبرات السارد المحنك, ورؤي الفيلسوف, وعذابات الصوفي, وإشارات الشاعر.
أما حواراته المتعددة علي صفحات نصف الدنيا, فكانت إفضاءات دافئة, ونوافذ مفتوحة علي ما هو إنساني وحميم في صدره وضميره. كما شهدت المجلة كذلك لقاءه الفريد للمرة الأولي مع صاحب نوبل العالم المصري الدكتور أحمد زويل, وتقصت المجلة أمكنة رواياته الشهيرة في جولات طافت بين القصرين وقصر الشوق والسكرية وخان الخليلي وقشتمر وحلوان والعباسية القديمة صعودا إلي هضبة الهرم, ليولد كتاب نجيب محفوظ.. المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع, لكاتب هذه السطور.
ز س قالها لي العم نجيب في صيف عام 1992, وهو يستقبلني في مكتبه بالأهرام, لأجري حوارا معه, وصافحني بحرارة, بما أكسبني وقودا كنت بحاجة إليه في تلك اللحظات.
كنت وقتها لا أزال أدرس الإعلام طالبا في جامعة القاهرة, وكان قد مضي علي فوزه بجائزة نوبل في الآداب أربع سنوات. اتصلت بمكتبه في جريدة الأهرام طالبا تحديد موعد معه لإجراء حديث كان في الأساس لـصوت الجامعة, وتوقعت آنذاك أن يقابل طلبي بالرفض, لكن الأستاذ فاجأني بالموافقة, وحدد لي الكاتب فتحي العشري (مدير مكتبه آنذاك) موعدا للقاء أديب نوبل بعد خمسة أيام, حيث كان يذهب إلي مكتبه في مؤسسة الأهرام يوم الخميس مرة كل أسبوعين.
هكذا بكل بساطة وجدت نفسي أمام العملاق, وكان الدرس الأول هو ذلك التواضع الجم, الذي يضيف إلي الكبير, ولا ينتقص منه مثقال ذرة.
فرغت من إجراء الحوار, ولم أنشره في صوت الجامعة التي توقفت بعض الوقت, لكنني عرضته علي أخي الأكبر الشاعر أحمد الشهاوي, سكرتير تحرير نصف الدنيا في ذلك الوقت, ومدير تحريرها الحالي, وكنت قد التقيته في مكتبه بمبني نصف الدنيا القديم. نصحني وقتها باستكمال الحوار مرة أخري مع الأستاذ, ليمكن نشره علي مساحة أربع صفحات دفعة واحدة ويمتلئ بالمزيد من الإفضاءات والأسرار, وليكون أول ظهور لي بالمجلة قويا, ومن ثم تتحمس رئيسة التحرير الكاتبة الأستاذة سناء البيسي لنشر الحوار, وإفساح المجال لي للتعاون مع المجلة, لحين استكمال دراستي الجامعية.
لا أنسي ما حييت هذا الحوار, فمن جهة هو مع العملاق نجيب محفوظ, ومن جهة أخري هو أو
##
ل ما نشر لي في مؤسسة الأهرام, التي لم ألتحق بكلية الإعلام إلا كي أعمل بها, دون سواها. كذلك لا أنسي تلك اللفتة النبيلة من أخي الشاعر أحمد الشهاوي, الذي تحمس لطالب جامعي لا يعرفه, ولم يره من قبل, ونصحه بالأفضل, لأنه يريد له الأفضل فعلا, وهذا مسلك الكبار.
في ذلك الحوار, الذي أستحضره كأنه منذ ساعات قليلة, سألت الأستاذ عن خير وسيلة لمقاومة المدفع, وكانت العمليات الإرهابية قد بدأت في الامتداد في أحياء القاهرة لتنال من أمنها وتهدد أهلها, فقال لي: ز لمقاومة المدفع تحطيمه, فصلاح الكون في أن يتنبه للتكنولوجيا التي تسعده, وأن يخرج من طور القتال والوحشية إلي السلام الدائم.
سألته عن مدي إيمانه بالكلمة, تلك التي قد بدأت تتلاشي وسط موجات العنف وطوفان الضجيج, فقال: الكلمة الحقيقية لا يمكن أبدا أن تنهزم أمام أي شيء, فهي قد تتعثر أحيانا, وقد يعلو عليها الضجيج أحيانا أخري, لكن قوتها الذاتية وما تحمله من حقيقة يجعلانها تبقي علي مر الزمن, والانتصار للكلمة في النهاية بدون شك.
وأضاف بثقة: لنا أن نتذكر أن الخير والشر في جدال وصراع أبديين منذ خلق الإنسان, لكن الواقع يؤكد أن الخير هو الأكثر, وأن النصر له, بدليل أننا نحيا إلي الآن, ونصنع هذه الحضارة كلها.
سألته عن لحظة فوزه بنوبل, فقال لي (وذلك قبل فوز العالم المصري الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل في العلوم): كنت أرجو أن يفوز عربي بجائزة نوبل في فرع من فروع العلم, فإذا حدث ذلك سيتحقق الحلم الكبير, وسينفتح أمامنا الباب الذهبي للدخول في العصر, عصر التحديث والتقدم.
سألته عن الشائعات والاتهامات التي تعرض لها في حياته, فأجابني بهدوء: أول ما تعرضت له من نقد أنني أديب البرجوازية الصغيرة, أي أنني ضد الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين, ولست ضد أحد بالطبع. واتهمت بأنني لا أستخدم العامية في رواياتي بجوار اللغة الفصحي, وكأنني أديب فئة دون أخري.
أما أغرب الاتهامات, والكلام له, فقد كان بعد فوزي بنوبل, حيث اتهمتني بعض التيارات بأنني أخذت الجائزة مكافأة علي رواية ملحدة, وقال آخرون إن الجائزة كانت بسعي من الصهيونية العالمية لأنني من أنصار كامب ديفيد, والحقيقة أن الروايات التي نوهت بها لجنة نوبل كانت حوالي ست روايات, آخرها هذه الرواية التي اتهموها (أولاد حارتنا), فلم تكن الجائزة علي رواية واحدة.
واستطرد محفوظ بلهجة مستنكرة: زلا أدري ما تأثير الصهيونية العالمية علي لجنة نوبل؟ وإذا كان لها تأثير, فهل تكون مكافأتي علي تأييدي لكامب ديفيد بعد عشر سنوات من الاتفاقية؟! إنها للأسف الشديد أقوال محرفة ترددت دون منطق.
سألته عن شخصيات رواياته, وهل هي حقيقية في معظم الأحوال كما يشيع المقربون, أم متخيلة, فقال: كل شخصية عندي هي مزيج من الحقيقة والخيال, فالفن يتطلب قدرا مناسبا من التصور, مع عدم الانفصال عن الواقع.
سألته عن أفضل الألوان, فقال بتلقائية: الأخضر, وأفضل يوم في الأسبوع فقال: الخميس, وأفضل صوت غنائي فقال: عبد الوهاب وأم كلثوم وسيد درويش ومنيرة المهدية, وأفضل طعام فأجاب: الملوخية! وعن أمنياته الأدبية آنذاك قال: إنشاء مؤسسة كبري للترجمة تابعة للجامعة العربية.
الرجل, أبي في النهاية إلا أن يردد حكمته المفضلة قائلا: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وبسؤاله عن آخر ما يطلبه ويتمناه قال بالحرف: زيارة الأراضي الحجازية, وحسن الختام.
باقة ورد إلي روحك أيها النجيب, الذي تعطرت بحروفك صفحات نصف الدنيا علي مدار أكثر من 22 عاما, ولا تزال تتعطر إلي هذه اللحظة
اختص العم محفوظ صفحات نصف الدنيا بنشر قصصه الجديدة, فشهدت المجلة أصداء السيرة الذاتية مسلسلة للمرة الأولي, قبل أن تصدر في كتاب, ثم ولدت علي صفحات المجلة تجربة أحلام فترة النقاهة, آخر ما اختطه قبيل رحيله. ويشكل هذان العملان انعطافة حقيقية في المسيرة المحفوظية الحافلة بإجماع الدارسين, حيث تتلاقي فيهما خبرات السارد المحنك, ورؤي الفيلسوف, وعذابات الصوفي, وإشارات الشاعر.
أما حواراته المتعددة علي صفحات نصف الدنيا, فكانت إفضاءات دافئة, ونوافذ مفتوحة علي ما هو إنساني وحميم في صدره وضميره. كما شهدت المجلة كذلك لقاءه الفريد للمرة الأولي مع صاحب نوبل العالم المصري الدكتور أحمد زويل, وتقصت المجلة أمكنة رواياته الشهيرة في جولات طافت بين القصرين وقصر الشوق والسكرية وخان الخليلي وقشتمر وحلوان والعباسية القديمة صعودا إلي هضبة الهرم, ليولد كتاب نجيب محفوظ.. المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع, لكاتب هذه السطور.
ز س قالها لي العم نجيب في صيف عام 1992, وهو يستقبلني في مكتبه بالأهرام, لأجري حوارا معه, وصافحني بحرارة, بما أكسبني وقودا كنت بحاجة إليه في تلك اللحظات.
كنت وقتها لا أزال أدرس الإعلام طالبا في جامعة القاهرة, وكان قد مضي علي فوزه بجائزة نوبل في الآداب أربع سنوات. اتصلت بمكتبه في جريدة الأهرام طالبا تحديد موعد معه لإجراء حديث كان في الأساس لـصوت الجامعة, وتوقعت آنذاك أن يقابل طلبي بالرفض, لكن الأستاذ فاجأني بالموافقة, وحدد لي الكاتب فتحي العشري (مدير مكتبه آنذاك) موعدا للقاء أديب نوبل بعد خمسة أيام, حيث كان يذهب إلي مكتبه في مؤسسة الأهرام يوم الخميس مرة كل أسبوعين.
هكذا بكل بساطة وجدت نفسي أمام العملاق, وكان الدرس الأول هو ذلك التواضع الجم, الذي يضيف إلي الكبير, ولا ينتقص منه مثقال ذرة.
فرغت من إجراء الحوار, ولم أنشره في صوت الجامعة التي توقفت بعض الوقت, لكنني عرضته علي أخي الأكبر الشاعر أحمد الشهاوي, سكرتير تحرير نصف الدنيا في ذلك الوقت, ومدير تحريرها الحالي, وكنت قد التقيته في مكتبه بمبني نصف الدنيا القديم. نصحني وقتها باستكمال الحوار مرة أخري مع الأستاذ, ليمكن نشره علي مساحة أربع صفحات دفعة واحدة ويمتلئ بالمزيد من الإفضاءات والأسرار, وليكون أول ظهور لي بالمجلة قويا, ومن ثم تتحمس رئيسة التحرير الكاتبة الأستاذة سناء البيسي لنشر الحوار, وإفساح المجال لي للتعاون مع المجلة, لحين استكمال دراستي الجامعية.
لا أنسي ما حييت هذا الحوار, فمن جهة هو مع العملاق نجيب محفوظ, ومن جهة أخري هو أو
##
ل ما نشر لي في مؤسسة الأهرام, التي لم ألتحق بكلية الإعلام إلا كي أعمل بها, دون سواها. كذلك لا أنسي تلك اللفتة النبيلة من أخي الشاعر أحمد الشهاوي, الذي تحمس لطالب جامعي لا يعرفه, ولم يره من قبل, ونصحه بالأفضل, لأنه يريد له الأفضل فعلا, وهذا مسلك الكبار.
في ذلك الحوار, الذي أستحضره كأنه منذ ساعات قليلة, سألت الأستاذ عن خير وسيلة لمقاومة المدفع, وكانت العمليات الإرهابية قد بدأت في الامتداد في أحياء القاهرة لتنال من أمنها وتهدد أهلها, فقال لي: ز لمقاومة المدفع تحطيمه, فصلاح الكون في أن يتنبه للتكنولوجيا التي تسعده, وأن يخرج من طور القتال والوحشية إلي السلام الدائم.
سألته عن مدي إيمانه بالكلمة, تلك التي قد بدأت تتلاشي وسط موجات العنف وطوفان الضجيج, فقال: الكلمة الحقيقية لا يمكن أبدا أن تنهزم أمام أي شيء, فهي قد تتعثر أحيانا, وقد يعلو عليها الضجيج أحيانا أخري, لكن قوتها الذاتية وما تحمله من حقيقة يجعلانها تبقي علي مر الزمن, والانتصار للكلمة في النهاية بدون شك.
وأضاف بثقة: لنا أن نتذكر أن الخير والشر في جدال وصراع أبديين منذ خلق الإنسان, لكن الواقع يؤكد أن الخير هو الأكثر, وأن النصر له, بدليل أننا نحيا إلي الآن, ونصنع هذه الحضارة كلها.
سألته عن لحظة فوزه بنوبل, فقال لي (وذلك قبل فوز العالم المصري الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل في العلوم): كنت أرجو أن يفوز عربي بجائزة نوبل في فرع من فروع العلم, فإذا حدث ذلك سيتحقق الحلم الكبير, وسينفتح أمامنا الباب الذهبي للدخول في العصر, عصر التحديث والتقدم.
سألته عن الشائعات والاتهامات التي تعرض لها في حياته, فأجابني بهدوء: أول ما تعرضت له من نقد أنني أديب البرجوازية الصغيرة, أي أنني ضد الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين, ولست ضد أحد بالطبع. واتهمت بأنني لا أستخدم العامية في رواياتي بجوار اللغة الفصحي, وكأنني أديب فئة دون أخري.
أما أغرب الاتهامات, والكلام له, فقد كان بعد فوزي بنوبل, حيث اتهمتني بعض التيارات بأنني أخذت الجائزة مكافأة علي رواية ملحدة, وقال آخرون إن الجائزة كانت بسعي من الصهيونية العالمية لأنني من أنصار كامب ديفيد, والحقيقة أن الروايات التي نوهت بها لجنة نوبل كانت حوالي ست روايات, آخرها هذه الرواية التي اتهموها (أولاد حارتنا), فلم تكن الجائزة علي رواية واحدة.
واستطرد محفوظ بلهجة مستنكرة: زلا أدري ما تأثير الصهيونية العالمية علي لجنة نوبل؟ وإذا كان لها تأثير, فهل تكون مكافأتي علي تأييدي لكامب ديفيد بعد عشر سنوات من الاتفاقية؟! إنها للأسف الشديد أقوال محرفة ترددت دون منطق.
سألته عن شخصيات رواياته, وهل هي حقيقية في معظم الأحوال كما يشيع المقربون, أم متخيلة, فقال: كل شخصية عندي هي مزيج من الحقيقة والخيال, فالفن يتطلب قدرا مناسبا من التصور, مع عدم الانفصال عن الواقع.
سألته عن أفضل الألوان, فقال بتلقائية: الأخضر, وأفضل يوم في الأسبوع فقال: الخميس, وأفضل صوت غنائي فقال: عبد الوهاب وأم كلثوم وسيد درويش ومنيرة المهدية, وأفضل طعام فأجاب: الملوخية! وعن أمنياته الأدبية آنذاك قال: إنشاء مؤسسة كبري للترجمة تابعة للجامعة العربية.
الرجل, أبي في النهاية إلا أن يردد حكمته المفضلة قائلا: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وبسؤاله عن آخر ما يطلبه ويتمناه قال بالحرف: زيارة الأراضي الحجازية, وحسن الختام.
باقة ورد إلي روحك أيها النجيب, الذي تعطرت بحروفك صفحات نصف الدنيا علي مدار أكثر من 22 عاما, ولا تزال تتعطر إلي هذه اللحظة
المصدر: منتدى عدلات النسائي